أكبر كتاب في العالم
كتاب وآراءمقالات

ميلاد السبعلي: “المنتشرون والوطن”

كتب الدكتور ميلاد السبعلي على صفحته مقالة بعنوان "المنتشرون والوطن" هذا نصها.

الحالة التي يتحول فيها الشعب من مواطنين موحدي الحقوق والانتماء في وطن يمتلكون الارادة والقدرة على تطوير حياتهم فيه وتعزيزها، الى زبائن مستأجرين في مكان يقدم لهم خدمات معينة، وتتحول الحكومة الى مزوّد خدمات تنظر الى الشعب كقطعان ورعايا وزبائن وأتباع… هي حالة يتحلل فيها مفهوم الأمة والدولة والوجدان القومي، وتتبدد أحلام النهوض المجتمعي والعمل النظامي والإرادة العامة لتحقيق المصلحة العامة الموحدة… وتستبدلها أحلام الهجرة والهروب واليأس من إمكانية التغيير، والخلاص الفردي والعائلي في أماكن/أوطان أخرى ومزودي خدمات أفضل…
يتعزز ذلك في ظل تفشي الثقافة الفردية بدل الوجدان الاجتماعي، في ظل انعدام الوعي لوحدة الهوية والوطن والانتماء والحضارة، وطغيان مفاهيم المصالح الفردية على المصلحة الوطنية والقومية العامة، بحجة التمدّن وتبنّي النظريات الفردية التي تسوّقها الليبرالية الرأسمالية “الديمقراطية”. عندها تهاجر النخب، بضغط الوضع المحلي السيء وعوامل الجذب للأفراد والكفاءات في الخارج… ويبقى من لا يستطيعون الى الهجرة سبيلاً، يتقاتلون ويتصارعون في دوامة التبدد، محاولين أن يحضروا أولادهم للهجرة التي لم يستطيعوا هم القيام بها.
وتصبح الحكومات المحلية المتحكمة الفاسدة الطائفية المتصارعة في داخلها، والمتوازنة بأحسن الأحوال في تقاسم الغنائم، تسمّي هؤلاء المهجرين “منتشرين”، كأنهم رحلوا بملء إرادتهم لنشر الحضارة وثقافة الكبة والتبولة في اصقاع الارض. وتستطرد في التغنّي بتميّزهم أينما حلّوا، وتسود ثقافة وأوهام التفوق العالمي، وفرادة المنظومة المحلية في انتاج هكذا عباقرة.
بينما الواقع في المغتربات غير ذلك. ومعظم المهاجرين عانوا الأمرّين وأبحروا بعكس التيارات الكثيرة، وقلّة منهم بلغت التميّز والتفوّق والنجاح، فيما أكثريتهم أصبحوا مواطنين عاديين في مجتمعات متنوعة… وجميعهم، المتميّزين والعاديين يفتقرون الى الوجدان الاجتماعي الذي يربطهم بوطنهم، باستثناء بعض الذكريات الجميلة التي يستعيدونها في زيارات موسمية الى ارض الأجداد، كسائحين غرباء مُستَعْلين في أحيان كثيرة على من بقي فيها، ويستغلّون صورة النوابغ المتميّزين التي تسوّقها عنهم الحكومات المحلية، علّها تجتذب جزءاً من اموالهم لزجّها في دوامات الفساد المحلية.
هذا واقع شعبنا في لبنان والشام والعراق وفلسطين وبقية اصقاع وطننا. والكثيرون من “منتشرينا” حملوا معهم خلافات البلاد وانقساماتها الطائفية والسياسية والعرقية، فيما الآخرون فرحوا بخلاصهم الشخصي والعائلي، وصاروا ينظرون بشفقة وشماتة الى ما يحصل في موطنهم الأصلي، شاكرين ربهم على ما منحهم من نعم في الخارج وعلى تخليصهم من مآسي الداخل.
أمام هذا الواقع المتفشي اليوم، وبعد عقود من الحروب في فلسطين ولبنان والعراق والشام، وحركات التهجير والهجرة، نستذكر من توجّه الى هؤلاء المنتشرين منذ ما قبل هذه الحروب والمصائب، الذين هاجروا منذ العهد العثماني او عهد الانتدابات، محاولاً إعادة إيقاظ وجدانهم الاجتماعي ووعي هويتهم الحضارية وواجبهم الفردي والمجموعي تجاه تطوير مجتمعهم وتحريره والنهوض به، بكلمات ما زالت تجلجل عبر التاريخ:
“إن لم تكونوا أنتم أحراراً من أمة حرة، فحريات الأمم عارٌ عليكم”! – سعاده
في جلسة خاصة في دبي، مع مهاجرة شابة متميّزة تدرس التخطيط المدني والمدن الذكية الحديثة، في إحدى أرقى جامعات لندن، وعلى ضوء تشرّبها لفكر سعاده، وبرغم مجالات واسعة للعمل في الخارج، قالت لي: “برغم كل التميّز والنجاحات والفرص في الخارج، وبرغم مآسي بلادنا وقرف جيلنا مما يحصل فيها، أنا لا أكون من أنا، إذا لم أعد الى بلادنا واشارك في إعادة تخطيط وبناء وتطوير مدننا في بيروت وطرابلس وحلب وحمص ودمشق والموصل وبغداد”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »