
أخبار لبنانكتاب وآراء
ميلاد سبعلي: “الأزمة التربوية في لبنان: ارقام وحقائق ومسؤولية الدولة”
يوماً بعد يوم، تتكشف الفوضى التي تسود قطاع التعليم ما قبل الجامعي في لبنان. حلول مجتزأة ارتجالية، ومطالب متناقضة بين الأهل والمعلمين وادارات المدارس الخاصة، وبين الوزارة والمعلمين المتعاقدين في التعليم الرسمي، ومقترحات شعبوية غير مفيدة من بعض أعضاء لجنة التربية النيابية…
لا بد إذاً من تحديد الواقع بالأرقام والحقائق، كي نستطيع تلمّس الحلول العملية والمحقّة.
مع بداية العام الدراسي 2019-2020، كان هذا واقع الحال:
– 70% من الطلاب مسجلون في المدارس الخاصة، و30% في المدراس الرسمية.
– معدّل نسبة الطلاب للمعلمين في المدارس الخاصة حوالي 12 طالباً لكل معلم، وفي التعليم الرسمي حوالي 5 طلاب لكل معلّم.
– معدّل الأقساط في المدارس الخاصة حوالي 4 مليون ليرة (بتوزيع واسع من نصف المعدّل في بعض المدارس الصغيرة خاصة في الأطراف الى ثلاثة اضعاف المعدّل في المدارس الكبيرة في العاصمة والضواحي).
– معدّل كلفة الطالب في المدارس الرسمية غير محتسب، ولكن مقدر بحوالي 6 مليون ليرة.
– معدّل المعاشات الشهرية للمعلمين حوالي 1.5-2 مليون ليرة.
– معدّل الدخل الشهري لعائلة متوسطة الدخل حوالي 2.5 مليون ليرة.
– مستوى المخرجات التعليمية يتدنى من سنة الى سنة بسبب قدم المناهج والمقاربات التعليمية وضعف تدريب المعلّمين وعدم متابعة التطورات العالمية في هذا المجال، خاصة لجهة التعلّم التكيّفي المبني على الكفايات والمهارات التطبيقية والحديثة المطلوبة في المجتمع وسوق العمل. يستثنى من ذلك طبعاً عدداً من المدارس المتميّزة الخاصة والثانويات الرسمية.
وبذلك، كان هناك نوع من التوازن بين دخل أولياء الأمور متوسطي الدخل وكلفة تعليم أولادهم. وكان معدّل دخل المعلّم مقبولاً نوعاً ما، خاصة بعد زيادة الدرجات الست من ضمن سلسلة الرتب والرواتب التي قررتها الدولة في 2018، مع أن معظم المدارس الخاصة لم تطبقها وقتها.
وكانت موازنات المدارس الخاصة أيضاً متوازنة نوعاً ما، وتخضع لتوزيع مصاريفها بحسب نسبة 65% للرواتب، و35% للمصاريف الأخرى.
هذا التوازن بين المدخول والمصروف على التعليم، سواء على مستوى أولياء الأمور أو المدارس، كان مقبولاً الى درجة معينة.
خلال عامين دراسيين متتاليين، واجه خلالهما لبنان عدة جائحات، وتحديدا الكورونا وانفجار المرفأ وانعدام الاستقرار السياسي والأزمة المالية والمصرفية، وارتفاع سعر الصرف ب 15 ضعفاً من 1,500 ليرة للدولار الى 22,000 ليرة بعد أن وصل الى 35,000 ليرة، مما أدى الى نسبة كبيرة من التضخم وكلفة الحياة على كافة المواطنين، إضافة الى تبخر ودائع المودعين في المصارف. بينما بقيت المداخيل والرواتب كما هي في معظم الأحيان، أو شهدت زيادات طفيفة لا تقارن بنسبة التضخم وغلاء المعيشة. فأصبح المواطن يقبض معاشه على سعر 1,500 ليرة ويصرف على حياته وحياة عائلته على سعر السوق. فانخفضت بالتالي القدرة الشرائية بشكل مريع، وأصبح لبنان من أفقر الدول في العالم من حيث معدّل دخل الفرد.
وكثرت التحليلات حول ما حصل، لكن ما أجمع عليه الخبراء هو أن السياسة المالية للدولة، والاستدانة المفتوحة والهدر والفساد، أدى الى نوع من Ponzi Scheme، حيث أن المصرف المركزي كان يقرض الدولة من أموال المودعين التي توظفها المصارف في سندات الخزينة والدين العام، بفوائد خيالية من المصرف المركزي. فيما يقوم السياسيون القيّمون على الدولة باستخدام الدين العام في سياسات استهلاكية دون أية رؤية تنموية أو خطط نهوض اقتصادي. وكانت المراهنة دائمة على استمرار تدفق الأموال من الخارج، فيتم تغطية الودائع القديمة المهدورة بالودائع الجديدة القادمة من الخارج، والتي تصبح مع الوقت مهدورة هي ايضاً. وعندما توقف تدفق الأموال من الخارج، انكشفت اللعبة وأصبحت المصارف والمصرف المركزي والدولة بحالة قريبة من الإفلاس.
وبدأت الأسئلة حول من يجب ان يتحمّل نتيجة الانهيار؟ ومن سيدفع كلفة الخسائر المحققة على مصرف لبنان، والتي تفوق 65 مليار دولار (البعض يقول أنها تفوق 80 مليار دولار). وكيف يتم التعويض على المودعين في المصارف الذين تبخرت ودائعهم, وبدأنا نسمع بالهيركات المباشر او المقنع. البعض أجاب أنها مسؤولية الدولة والسلطة السياسية والمالية الفاسدة. والبعض الآخر يقول أصحاب المصارف. وآخرون يقولون الشعب. والأرجح أن أي خطة للتعافي الاقتصادي يجب أن توزع تحمل نتائج الانهيار الى هذه الأطراف الثلاثة.
ما يتم إغفاله، هو أن الانهيار لم يؤثر فقط على المودعين، بل على كل اللبنانيين الذين ضربت قدرتهم الشرائية وذابت مداخليهم ومدّخراتهم، وضربت قطاعات الاقتصاد اللبناني برمتها، باستثناء المتحكّمين الذين يستفيدون من المتاجرة بالعملة والتهريب والفساد.
ومن أكثر القطاعات التي ضربت هي التربية والتعليم. فالتاجر يمكن أن يخسر مرة، لكنه يعود فيستورد على سعر صرف عالي، ويبيع على أساسه. أما القطاع التعليمي، فمدخول المعلّمين لم يعد يكفي لشراء بعض الأساسيات. وصارت كلفة النقل تضاهي الراتب. وكلفة التشغيل في المدارس الرسمية والخاصة، ما عدا الرواتب، تضاعفت قيمتها من 35% من المصاريف، الى أكثر من 100-150% من مجموع المصاريف، بسبب أن بعض هذه المصاريف مثل المحروقات والتجهيزات وغيرها تتبع سعر الصرف. فيما المدخول الرئيسي للمدارس هو من الأقساط. وبالتالي حتى تستطيع المدارس الخاصة تحمل هذه الزيادة في المصاريف التشغيلية، أو زيادة لرواتب المعلّمين حتى يستطيعوا متابعة رسالتهم بالحد الأدنى من الكرامة، تستدعي رفع الأقساط بشكل كبير. وهي مسألة مستحيلة ولا يستطيع تحملها أولياء الأمور. وهذا ينعكس ايضاً على كلفة التعليم الرسمي الذي تتحمله وزارة التربية عادة.
هنا أيضاً يطبق السؤال: من يتحمّل نتيجة الانهيار؟ أولياء الأمور؟ أم أصحاب المدارس؟ أم الدولة؟
للأسف أن معظم النقاشات تدور حول المناكفات بين أولياء الأمور الذين يطالبون أن تتحمل إدارات المدارس الخسارة المفروضة، في وقت يطالب المعلمون بالزيادة، فترد إدارات المدارس أن هذا يتطلب زيادة الأقساط. مما يضع الأهل في مواجهة المعلّمين، والاثنين في مواجهة إدارات المدارس. لا شك أن عددا من أصحاب المدارس الخاصة قد حققوا ارباحا كبيرة في السنوات السابقة، نتيجة غياب أجهزة الرقابة والتقييم والمحاسبة في وزارة التربية، ويمكن لبعض منهم ممن لم يخسروا مدخراتهم في المصارف أن يتحملوا بعض تبعات الأزمة الحالية. لكن الأزمة أكبر من طاقتهم، وهم لم يكونوا من المتسببين بها كأصحاب المصارف مثلا.
ويلاحظ من كل الجدل الصاخب في وسائل الاعلام أن كل هذه الأطراف تهمل السبب الاساسي لهذه الأزمة، وهو الانهيار المالي ومن تسبب به.
وفي قطاع التعليم الرسمي، نرى وزارة التربية متروكة لوحدها، كأنها دولة مستقلة، عليها التسوّل من الجهات المانحة، لتأمين بعض مستلزمات معلمي المدارس الرسمية لإقناعهم بالعودة الى التعليم، خاصة وأن المدارس الرسمية لم تعلّم سوى اقل من شهر خلال العام الدراسي الحالي. وما زال المتعاقدون من أستاذة التعليم الرسمي، الذين يشكلون أكثرية المعلمين في هذا القطاع يعلنون تمديد إضرابهم حتى تأمين الحد الأدنى المقبول من المطالب. وهنا أيضاً، هناك تغييب لمسببي الأزمة.
أما مسببو الأزمة، من الطبقة السياسية الفاسدة الطائفية المتحالفة مع أصحاب المصارف وحاكم المصرف المركزي، والتي هدرت المليارات وراكمت ثرواتها ونقلتها الى الخارج مع بداية الأزمة، فهي تتفرج على هذه الفوضى بصفاقة وانعدام مسؤولية، وتدّعي أنها تركز على حلول للأوضاع العامة بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة، معتبرة أن التعليم سيستمر بطريقة أو بأخرى، والناس ستضطر الى تحمل كلفة ذلك، حتى لو بمستويات تعليمية رديئة، الى أن يعود الوضع الى حالة طبيعية، حتى لو أخذ ذلك عدة سنوات.
أما الحقيقة التي لا يمكن الهروب منها أو إغفالها، هي أن المسؤولية الأساسية هي على مسببي الأزمة. والدولة والقائمون عليها، وليس فقط وزارة التربية، هي من يجب أن تتحمل كلفة تأمين استمرار المنظومة التربوية واستعادة توازنها، لا تحميل ذلك لأولياء الأمور.
وبالتالي لا بد من مرحلة انتقالية لعدة سنوات، يجب أن تؤمن فيها الدولة، من خلال أية مفاوضات دولية أو خطة انقاذ اقتصادية، دعماً مالياً لقطاع التعليم الرسمي والخاص، لتأمين الاستمرار وإقفال الجدل البيزنطي القائم، خاصة في القطاع الخاص الذي أصبح الآن يضم 75% من الطلاب، بين المعلّمين وإدارات المدارس والأهل. فهذه الأطراف الثلاثة لن تستطيع انقاذ الوضع التربوي لوحدها. ولا بد من أن تدخل الدولة في صلب أية خطط إنقاذية، موازنات مخصصة لدعم التعليم ما قبل الجامعي، في القطاعين الخاص والعام. وقد رأينا في الدول التي تحترم نفسها وشعوبها، موازنات بمليارات الدولارات صرفت على دعم التعليم الرسمي والخاص لتأمين الاستمرارية، ورفع هموم تأمين التمويل اللازم للتشغيل، حتى تتفرغ مؤسسات التربية والتعليم ووزارة التربية الى دورها الأساسي في تقديم تعليم عالي الجودة والمضي قدماً في التطوير البيداغوجي والتكنولوجي وتدريب المعلمين والاداريين لمواكبة التطورات العالمية في هذا المضمار، من خلال ابتكار مقاربات إبداعية جديدة لرفع مستوى مخرجات المنظومة التربوية بشكل عام بحسب المعايير الدولية، بما في ذلك تحسين أداء الطلاب اللبنانيين في الاختبارات الدولية.
الرأسمال الأساسي في عصر المعرفة هو الرأسمال البشري، الذي يقاس تطوره بقدرته على الابتكار والابداع والإنتاج العلمي والمعرفي وتطبيق العلوم والتقنيات والمفاهيم في مختلف قطاعات الاقتصاد الإنتاجية والخدمية والمعرفية لتحقيق نهضة محلية ومواكبة العصر. وأية خطط أو مفاوضات لا تعمل على إنقاذ هذا الرأسمال وتعزيزه هي خطط ومفاوضات عقيمة وقصيرة النظر وحتى متآمرة.
في العقدين الأخيرين، كان عدد الخريجين الجامعيين في لبنان يفوق 35 الفاً سنوياً، فيما الاقتصاد المحلي غير قادر على خلق أكثر من 4 آلاف وظيفة جديدة، باستثناء بعض توظيفات المحسوبين في الدولة، وهذا نوع من البطالة المقنعة. بالتالي فإن حوالي 30 الف متخرّج سنوياً كان محكوماً عليهم سلفاً بالبطالة أو الهجرة. لذلك اصبح التعليم لأبنائنا بمثابة وصفة للهجرة. وكان أصحاب النموذج المالي البائد، يفرحون بذلك، ويسوقون لمقولات تفوّق اللبنانيين أينما حلّوا، لتشجيع الشباب المتعلّم على الهجرة، على أمل أن يحوّلوا جزءاً من مداخليهم في الخارج الى المصارف اللبنانية، لرفد عملية الهدر والفساد والسرقة والـ Ponzi Scheme بشكل مستمر. وقد هاجر أكثر من مليون شاب خلال العقدين الماضيين. والسؤال اليوم، بعد انكشاف هذا النظام المالي الاحتيالي الفاشل، هل سنبقى نصدر شبابنا الى الخارج بنفس الأسلوب؟ وحتى لو كان الجواب بالإيجاب، فإن المتخرجين اللبنانيين سيفقدون وهجهم وتميّزهم مع الوقت، في ظل سنوات من تنامي الفاقد التعليم وفشل السياسات التربوية وضرب مؤسساتها وتجويع معلّميها وقهرهم وتجويعهم.
إن ما نشهده في لبنان والمنطقة المحيطة بشكل عام، من إهمال من قبل الحكومات والسياسيين في التعاطي مع الأزمة التربوية، إلا بالحد الأدنى، وترك نتائج الانهيارات التي تسببت هي بها، على عاتق الناس وأولياء الأمور والمعلّمين وأصحاب المدارس الخاصة، هو مشاركة فاضحة في ضرب هذا الرأسمال، وتجهيله وتهجيره، حتى تبقى بلادنا فريسة لكل طامع ومستعمر وعدو.
وإذا استمرت المعالجات القائمة للوضع التربوي في لبنان والمنطقة على ما هي عليه، تكون الحكومات، هي عن قصد أو جهل، شريكة في ضرب مستقبل البلاد وأملها الوحيد لاستعادة سيادتها وحياتها وازدهارها.